أعتادت هبة في كل مرة تقابل فيها وفاء صديقة طفولتها, أنها تديلها جواب
مكتوب بخط إيديها.
طريقة قديمة تم أستحدثها الآن بالماسنجر والواتس أب, ولكن هبة من شدة
محبتها لوفاء كانت بتحب تكتبلها بخط إيديها, كنوع من التذكار ما بينهم..
الجوابات كانت عبارة عن مواقف وذكريات ليهم سوا, يعني في مرة مثلاً تفكرها بأول
لقاء ما بينهم, ومرة تفكرها بذكريات خطوبة كل واحدة فيهم, ومرة تكتب لها عن
إمتنانها لوجودها في حياتها..ألخ.
وفاء كانت أقرب صديقة لهبة, لدرجة أن هبة كانت بتعتبرها روحها فعلاً من شدة تعلقها بيها,
كانوا يومياً يتواصلوا سوا, ويومياً لازم يتقابلوا.
هما الأتنين عاشوا تفاصيل حياة بعض من حزن وفرح, من نجاح وفشل, من إحباط وإنجاز,
كل تفاصيلهم كانت مع بعض, محدش في الدنيا يعرفهم أكتر من معرفتهم هما ببعض, كانوا
بمثابة روح واحدة في جسدين..
في مرة وفاء سمعت شيخ بيتكلم عن أهمية كتابة الوصية بتاعتك قبل ما تموت,
وفعلاً وفاء بدأت تكتب كل حاجة عايزة أهلها ومعارفها يعملوها لها بعد وفاتها, وبعد
ما خلصت كتابة الوصية, معرفتش تديها لمين!
فكرت تديها لوالدتها أو والدها بس حست أنهم ممكن يقلقوا عليها أو يقطعوها
ويقولوا لها "بعد الشر متقوليش كدة ربنا يجعل يومنا قبل يومك" والكلام
المعتاد دا اللي بيقولوه الأهل من خوفهم على ولادهم..
فكرت تدي الوصية لأختها الكبيرة ولكن علاقتها بيها مكنتش جيدة عشان
تستأمنها على حاجة زي كدة, ووارد جداً أنها تستهتر بمشاعرها, وتقولها إيه الهبل دا
وتكسر بخاطرها.
فكرت تديها لزوجها بس مؤخراً علاقتهم ببعض مكنتش جيدة عشان تديله حاجة زي
كدة.
فكرت كتير تديها لمين لحد ما قررت تدي "الوصية" لهبة صديقتها
وحبيبتها, واللي مهما دورت مش هتلاقي حد أنسب منها.
وتاني يوم قابلت وفاء هبة في المكان بتاعهم المعتاد, وقبل ما هبة تدي لوفاء
الجواب بتاعها المًعتاد واللي سموه "جواب اللقاء", مدت وفاء إيديها في
شنطتها ومسكت الظرف وأديته لهبة, وقالتلها خليني أنا المرة دي اللي أكتب لك, ولسة
هبة جاية تفتحه لاقت مكتوب عليه "رجاءً لا تفتحي ذلك الظرف إلا بعد
وفاتي".
أستغربت جداً هبة من الجملة دي, وبصت لوفاء وعيونها كلها دموع, لأن قلبها
أتقبض على صاحبتها, فقالتلها: إيه دا يا وفاء؟!
ردت عليها وفاء وقالتلها: وصيتي يا هبة.
هبة بإستغراب شديد: وصيتك؟!
وفاء: أيوة, خليها معاكي ومن فضلك بلاش تفتحي الظرف إلا بعد وفاتي, ويا ستي
متقلقيش كدة, أنا لسة قعدة شوية في الدنيا عشان أقرفك.
نطت هبة من مكانها وقامت حضنت وفاء بعمق, لأنها ولأول مرة تحس أن صديقتها
مش هتكمل معاها لفترة طويلة للأسف.
وفعلاً ما فاتش كتير على الواقعة دي, ووفاء ماتت فعلاً بحادثة عربية.
ووسط كل دموع الأهل والأقارب, ووسط إنهيار ودموع هبة عليها ودعوا كلهم وفاء
وإلى الأبد, ولكن قبل الدفن أفتكرت هبة الظرف, وقررت أنها تفتحه بسرعة وتقرأ اللي
فيه, يمكن يكون عليها ديون تسددها لصديقة عمرها, عشان تكون مطمنة في تربتها.
ركبت هبة عربيتها وراحت جري على بيتها, وفتحت دولابها واللي كانت شايلة فيه
وصية وفاء, لاقت الظرف فتحته ولاقت فيه الكلام التالي:
حبيبتي هبة..
ترددت كثيراً قبل أن أقرر وأعترف لك بالحقيقة, كوني متأكدة أني صدقاً تغيرت
للأفضل على يديكِ يا حبيبتي, ولكن حتى أشعر براحة الضمير فلابد أن أعترف لك بما
ينغص عليا حياتي..
هبة, جُل المتاعب والمشاكل التي كنتِ تتأزمين بسببها, كانت بفعلي أنا, كنت
أطعنك بالخنجر في ظهرك وأمامك أظهر لك حبي ومودتي.
تتذكرين عندما مرض أبنك وكنتِ تبحثين له عن دواء نادر وجوده بمصر, كنت أبحث
معكِ في كل الصيدليات, ولكنني كنت أعلم أننا لم نجده سوى بالخارج, وكنت أعرف صديق
لي من الممكن أن يأتي إليه بسهولة لنا, ولكني رفضت أن أتصل به حتى أراكي تتألمين,
فلماذا تكوني أماً وأنا لا؟!
ولهذا السبب كنت بتمنى من كل قلبي أن يموت أبنك.
تتذكرين خناقاتك المستمرة مع زوجك؟!
فكنت أفرح كثيراً بشجاركما هذا وكنت دائماً أنصحك بنصائح تخرب بيتك أكثر
فأكثر في صورة إخلاص ومحبة, وأنتِ من شدة نقائك كنتِ تثقين بي.
تتذكرين حلمك الذي كنتِ ترجو تحقيقه وتسعين وراءه بكل إصرار؟
فأنا التي كنت دوماً أنصحك بأن ذلك الحلم مُرهق للغاية ولا يأتي إليك إلا بالتعب
والضيق, وأنا التي شجعتك على التخلي عنه..
كنت صديقتك التي تُحبك ظاهرياً, ولكن في حقيقة الأمر فكنت أكن لكِ كل الكره
والحقد, وكنت أستغلك كثيراً لصالحي أنا.
هبة, لم أفيق من حقدي وكرهي هذا تجاهك, إلا بعدما مرضت بمرض شديد, ووجدتك
أنتِ وأنتِ فقط من بجانبي, وتركتي كل شئ
من أجلي, وكنتِ على إستعداد أن تتبرعي لي ولو بجزء من جسدك لكي أشفى أنا, وفي تلك
اللحظة فقط, شعرت أنني أمتلك أجمل قلب في الدنيا.
وفي تلك اللحظة فقط شعرت أنني أحبك بكل كياني, وودت لو يرجع بي الزمن لكي
أعوضك عن ما خسرتيه بسببي.
ولكن كيف لي أن أعيد إليكِ أبنك بعدما توفاه الله؟!
وكيف لي أن أعيد لكِ زوجك المخلص المُحب لكِ بعدما ترك البلد وهاجر؟!
كيف لي أن أعيد لكِ منصبك اللامع في الوظيفة التي كنتِ تُحبينها بعدما
شجعتك على الأستقالة؟!
كيف لي أن أعيد لكِ ترتيب حياتك من جديد, بعدما دمرتها لكِ بكل ما أوتيت من
قوة, كيف؟!
أعلم أنكِ مصدومة في كثيراً, أعلم أنكِ تكرهيني الآن, أعلم أنكِ تريدين فتح
قبري لكي تنهشي لحمي قبل أن يتحلل, أعلم ذلك.
ولكن ثقي بي هذه المرة, فأنا حقيقاً أحببتك بالنهاية, ولم أستطع النوم ولا
الراحة لما فعلته بك, فكنت أتعذب من أجلك, ولهذا السبب قررت أن أكتب إليكِ تلك
الرسالة عسى أن تغفري لي...
الوداع يا صديقة العمر/
وفاء
خلصت هبة قراءة الوصية, وبعد صمت طويل, فجأة جتلها كريزة ضحك متواصلة!
ومسكت الجواب واللي كان لازال في إيديها وقطعته ورميته وبقت تضحك أكتر لما
الورق يطير قدامها, ويجي على وشها.
فضلت تضحك تضحك تضحك تضحك بدون توقف, ولو كان حد شاف ضحكها كان هيشك أنها
أتجننت بموت صاحبتها ومن صدمتها فيها.
وبعد ساعات متواصلة من الضحك, سكتت للحظات وقالت والدموع مالية كل عينيها:
بل سامحيني أنتِ يا صديقتي الوحيدة, فكنت أعلم جيداً ما تحملين بداخلك من
حقد وكره تجاهي, فحادث موتك كان مُدبر.