لم أكن أتصور يوماً ما إنني سوف أقابل شخص, يفتح لي قلبه منذ المرة الأولى
والأخيرة في لقاءنا!!
فأنا مؤمنة حقاً بأن الأرواح تتلاقي بسرعة البرق, ولكني لم أتخيل أنها
سريعة إلى مثل هذه الدرجة.
***
عندما توفى أبي –رحمة الله عليه—كنت دائمة الشرود في اللاشئ, كنت أفضل
الجلوس وحدي, كنت أفضل التنزه وحدي, كنت أرفض التجمعات, وكنت أرفض مقابلة
الأصدقاء, كل ما كنت أفعله حقاً هو إنني أبقى وحدي تماماً دون وجود شخص معي.
وفي يوم من الأيام قررت أن أسير بمفردي في الطرقات, ووجدت قدماي قد أستقرا
في مكان هادئ خالِ من كل البشر, وجدت في ذلك المكان راحتي, شعرت حينها أنني بدأت
ألتقط أنفاسي مرة أخرى.
كان ذلك المكان أشبه بالجزيرة من شدة جماله وروعته, به الكثير من الأشجار
والمناظر الطبيعية, تتوسطه بحيرة ماء نقي صاف تماماً.
ولحسن حظي وجدت بذلك المكان مقعد من الممكن أن يحمل شخصان معاً, ولكن لعدم وجود
شخص غيري فجلست على ذلك المقعد بمفردي ووضعت حقيبتي بجانبي.
وفور جلوسي أخرجت كتاباً من حقيبتي التي كانت بجانبي, وبدأت أتصفحه بلا
إهتمام, فلم أكن أريد أن أقرأ حينها, فأغلقته مرة ثانية ووضعته بجانبي, وأخذت أشرد
بخيالي وأنا أنظر إلى البحيرة العميقة تلك.
ظللت أفكر في كل شئ بحياتي تقريباً, كنت أفكر في أهلي, حياتي, مستقبلي,
طموحي, أصدقائي, كل شئ تقريباً كنت أفكر به, ولكنني كنت مجرد أمرره فقط على خاطري
ولم أخذ أي قرار للقيام به في أي جانب من جوانب حياتي تلك.
بقيت في ذلك المكان إلى ما يقرب سبع ساعات تقريباً دون أن أشعر بمرور الوقت,
وعندما غلبني النعاس قررت أن ألملم أشيائي وأن أعود إلى منزلي, وفي ظل وقوفي وأنا
أميل قليلاً إلى الأمام ناحية المقعد لكي ألتقط منه كتابي, لمحت شخص قادم من بعيد,
في بادئ الأمر شعرت بالرهبة قليلاً, لأن ملامحه لم تكن ظاهرة لي, ولكن عندما أقترب
مني ذلك الشخص وجدتها امرأة.
كانت سيدة تبلغ من العمر حوالي أربعون عاماً, كانت أنيقة جداً, جميلة, واضعة
المساحيق الهادئة البسيطة والتي تضفي على وجها جمالاً أكثر, أقتربت مني وقامت
بتحيتي عن طريق ميل رأسها قليلاً إلى الأمام مع ابتسامة رقيقة, بالطبع ألقيت عليها
التحية أنا أيضاً.
جاءت لتجلس على المقعد الذي كنت أجلس عليه, وبعدما كنت أنوي على الرحيل,
فضلت أن أجلس بجانب تلك السيدة لشدة فضولي أن أتحدث إليها, فأنا شغوفة جداً بالناس
وبمعرفة قصص حياتهم والتي بالطبع بها الكثير من الحكايات والذكريات السعيدة منها
والتعيسة.
وبالفعل جلست بجانبها دون أن أتفوه بكلمة واحدة, كنت أحس بأنها لم تشعر
بوجودي أصلاً من شدة تفكيرها في أمر ما لا أعلمه, وهنا بادرت إلى أن أتحدث معها
على إستحياء ودار فيما بيننا ذلك الحوار:
أنا: المكان جميل قوي هنا, أنا أول مرة أعرف إن في مكان بالجمال ده في مصر.
هي: فعلاً.
أنا: والحمدلله أن الجو النهاردة طلع حلو وإلا كانت هتبقى مشكلة لو مطرت.
هي: مش فارقة كتير أنا بحب المطر أصلاً.
في حقيقة الأمر شعرت بأنها ترد على مضض, فهي لا تريد أن تتحدث إلى أحد
ولكنها كانت ترد علي لذوقها في أن لا تحرجني ليس أكثر, كنت أنوي أن أكف عن كلامي
معها, ولكن كان هناك شئ ما بداخلي يقودني إلى الحديث معها مرة ثانية, ولا أعلم
السبب وراء ذلك الإحساس!
ولأنني كنت دائماً ما أثق في إحساسي وحدسي, فقررت أن أكمل معها حواري.
وبالفعل نظرت إليها وقلت لها: أسمي ندا.
ردت علي وهي تبتسم, فمن الواضح أنها شديدة الذكاء, وتعلم جيداً أنني أريد
أن أتجاذب معها أطراف الحديث: وأنا رقية.
أنا: الله أسم جميل قوي.
هي: ميرسي لذوقك.
كانت ترد علي وتنظر مرة أخرى إلى السراب, كانت تنظر فور إنتهاءها من الرد
علي إلى اللاشئ.
أنا: عارفة يا روكا, تسمحي لي إني أقولك روكا, أنا من أنصار الرغي والحكي
في المطلق, يعني مرة مثلاً كنت زهقانة وعايزة أتكلم فنزلت الشارع وفعلاً أتكلمت مع
بنت في حاجة كانت مضيقاني وكنت محتاجة أخد فيها قرار, طبعاً هتقوليلي وليه مخدتش
رأي حد من صحابي أو حتى أهلي, هقولك أحياناً بنبقى عايزين نتكلم مع حد ميعرفناش,
ميبقاش عنده حكم مسبق بشخصيتنا وطريقة تفكيرنا, يسمعنا ويقولنا رأيه من غير ما
يعرف أحنا مين, من غير ما يدينا رأيه النابع من معرفته بشخصيتنا الحقيقة, عايزينه
يتكلم معانا لمجرد إنه إنسان بيخاطب إنسان مش أكتر, إنسان لا يعرف هو منين ولا
بيشتغل إيه ولا بيواجه مشاكل إيه, يتكلم معانا لمجرد الكلام مش أكتر.
نظرت إلي بإستغراب شديد, وكأنني كنت أقول ما تود سماعه حقاً, وفي صعوبة نطق
بالغة قالت لي: بس أحياناً الكلام حتى لو مع شخص ميعرفكيش بيوجع, أحياناً الكلام
بيوجع أكتر ما بيريح يا ندا.
قلت لها: آه, أتفق معاكي تماماً, بس لو متكلمناش برضه هنموت من الكبت,
تعرفي أنا مرة سمعت واحدة بتحكي عن جوزها اللي مات بتقول مصطلح غريب قوي, قالت
"أتحسر في بطنه ومات"! اللي هو للدرجة دي ممكن حد يكتم همومه ومشاكله
لدرجة إن كبتها تموته؟!
رقية: الحياة فيها من الصعوبات ما لا نطيق, ومش كلنا بنقدر نستحمل اللي بنشوفه,
وحتى لو قدرنا الناس والمجتمع مش بيرحمونا, تعرفي أنا كتير بقول أن الحياة بدون
ناس أحلى وألطف كتير من وجودهم, أنا نفسي أعيش لوحدي, أو أنتمي لمجتمع محدش فيه
يعرف حد, نفسي في كدة قوي.
أنا: بعتقد أن كلنا بنحس بنفس الشعور ده من حين لأخر, ولكن محدش يقدر يعيش
لوحده!
رقية: بس أنا قدرت.
أنا: إزاي؟!
عم الصمت لبضع دقائق دون أن يتفوه أحد منا ولو بكلمة واحدة, وفجأة وجدتها
تبكي في صمت, وكأنها تخشى أن تقوم بعمل ضجيج من الممكن أن يوقظ شخصاً نائماً
بجوارها.
ترددت كثيراً قبل أنا أسألها ما بها ولماذا تبكي, ولكني قررت أن أسألها
مهما كانت النتيجة المحتملة, وبالفعل سألتها: هو أنا ضايقتك بكلامي يا روكا؟
رقية: لا أبدأ, أنا بس اللي كنت جاية أشم هوا وأقعد لوحدي لكن واضح جداً
إني مهما حاولت أهرب هلاقي الشخص اللي يجي ويفكرني بالحاجات اللي بهرب منها, وإنتِ
النهاردة كنتي الشخص ده.
أنا: أسفة جداً لو تطرقت لأحاديث مكنتيش حابة تتكلمي فيها, وحقيقي أنا
مش....
قاطعتني قبل أن أكمل كلمتي.
وقالت لي: أنا مش فاكرة الحكاية بدأت أمتى ولا حتى إزاي ومنين, كل اللي أنا
فكراه إني شخص قرر إنه يعيش الحياة اللي يخترها هو بمحض إرادته, شخص يقرر إيه اللي
يتناسب معه وإيه لأ, شخص يختار الحياة اللي مش فارضها عليه المجتمع, وعشان كدة أتخرجت
من الجامعة وتحديداً كلية الهندسة, كان وقتها تحدي بالنسبة لي إني أدخل كلية زي دي
لأن محدش كان متوقع إني ممكن أجيب مجموعها, وفعلاً دخلتها وأنا فخورة جداً بنفسي,
ركزت في الدراسة عشان كنت حابة أتعين مُعيدة, مكنتش بهتم أعمل صداقات جديدة وكنت
مكتفية بصدقاتي القديمة اللي بحبهم جداً وبيحبوني, وفعلاً أتخرجت من الجامعة
وأتعينت مُعيدة, وبرضه كان ده تاني إنجاز في حياتي أحس فيه بالفخر, كنت دايماً
أقول لنفسي أن الشغل الأكاديمي مش كفاية وعشان كدة قررت أشتغل في شركة بجانب شغلي
في الجامعة, وهناك أتعرفت على زميل ليا حبيته جداً, كنت مستعدة أتنازل عن أي حاجة
في الحياة عشان بس نتجوز, كنت مستعدة أتنازل عن طموحي ومكانتي الإجتماعية عشانه,
ولكن للأسف طلع كان بيتسلى بيا في الأخر وكان بيتقرب مني بس عشان كنت شاطرة وعشان
كنت بساعده في شغله.
سبت الشغل وقررت أكتفي بالجامعة وإنشغل بالدراسات العليا, نسيت نفسي في
الشغل وفي الدراسة إلى أن وصلت لسن التلاتين!
فجأة كل صحابي أتجوزوا وخلفوا كمان, فجأة لاقيت نفسي لوحدي, طبعاً بنخرج
أنا وصحابي بس كلامنا ما بقاش واحد, مشاكلنا مبقتش واحدة, إحساسنا مبقاش واحد, هما
مش هيقدروا يحسوا بمشاكلك ولا انتي كمان هتقدري تحسي بمشاكلهم, عشان كل واحد فيكم
عايش حياة مختلفة تماماً.
مرة قعدت مع نفسي عشان أشوف هعمل إيه في حياتي وجيت المكان ده بس فضلت فيه
لوحدي, وكنت بكلم فيه نفسي, سألت نفسي هو اللي أنا بعمله ده صح؟!
العمر بيجري بيا ولحد دلوقتي متجوزتش ولا عندي أولاد, مأنا مسيري هكبر
ومسيري أتقاعد عن العمل وهبقى بجد ساعتها لوحدي تماماً, مفيش حد يملا عليا حياتي,
مش هيبقى فيه صحاب ولا أحباب, ساعتها مش هيبقى في حد نهائي.
آه دلوقتي أخترت إني أركز في شغلي ودراستي, بس طب وبعدين, يعني هو أنا لازم
أركز في حاجة وحاجة تانية تقع من إيدي, يعني مينفعش أبقى ناجحة في شغلي وفي نفس
الوقت أبقى زوجة وأم ناجحة برضه؟!!
ساعتها كانت لسة السكينة سرقاني وأهلي كانوا حواليا هما وصحابي, ركزت أكتر
في شغلي وخدت الماجيستير والدكتوراه كمان, أهلي وصحابي بدأوا يجيبوا لي عرسان, وفي
كل مرة كنت بقابل حد فيهم مكنتش بحس بالراحة والأمان معاهم, وطبعاً كنت برفضهم..
تمر السنين ووأنا عندي 35 سنة والدي توفى وكانت صدمة بالنسبة لي حسيت إني
خلاص مبقاش ليا ظهر أتسند عليه, بجد حسيت إني لوحدي, وبعدها بفترة قررت إني أتجوز
عشان أرجع لحياتي الأمان من تاني, بس مقدرتش أخد خطوة إني أتجوز لمجرد الجواز وبس,
أنا نفسي أتجوز واحد يحس بيا وأحس بيه, وبعد ما فشلت في الجواز قررت أسافر وأشوف
وأتعرف على ناس جديدة وأشوف حياة جديدة.
وفعلاً أنبسطت جداً من السفر, وفرحت قوي بالعلاقات والصدقات الجديدة اللي
كونتها في كل بلد زرتها تقريباً, ولكن وللأسف الشديد رجعت مصر تاني, رجعت للمجتمع
وكلام الناس اللي مبيرحمش, والناس بدأت تقولي يا عانس صحيح بهزار, بس أنا بحس بوجع
لما بسمعها منهم.
أمي هي كمان توفت لما وصلت لسن الأربعين, وهنا بقى كانت القشة اللي قسمت
ظهر البعير خصوصاً إني كنت وحيدة معنديش أخوات, فجأة بقيت بطولي ولوحدي بلا ونيس
أو جليس زي ما بيقولوا كدة.
وبعد ما كنت بهزر وبضحك ومُقبلة على الحياة بقيت مطفية ومش عايزة أعمل
حاجة, تعرفي لولا أن الإنتحار حرام كنت أنتحرت من زمان.
صحابي بطلوا يسألوا عليا, أهلي من ناحية بابا وماما أصلاً مكنوش بيسألوا
علينا لما بابا وماما كانوا عايشين, فكان شئ طبيعي أنهم ميسألوش عليا لما ماتوا.
سكتت قليلاً ثم أكملت حديثها فقالت:
ندا أنا بشوف في عيون الناس نظرات المسكنة والصعبانيات دي بتقتلني من
جوايا, محدش بيقول حاجة بس عيونهم يا ندا بتوجع أكتر من الكلام, ليه المجتمع
بيهاجمنا لمجرد أننا متجوزناش؟!
ليه الناس متسبش الناس في حالها..
عارفة أنا حاسة إني عندي حالة من الزهق من كل حاجة, من الجامعة, من الناس,
من السفر من كل حاجة ونفسي أختفي.
أنا: تختفي؟!!
رقية: أيوة أختفي, نفسي محدش يشوفني وأعيش لوحدي وبمزاجي من غير جبروت وظلم
الناس ليا, نفسي أتلاشى من الحياة وبشكل نهائي.
أنا: إنتِ شايفة أن تفكيرك ده صح؟! يعني أنا رأيي......
وقاطعتني وقالت: ندا أنا مش عايزة حد يحللي اللي أنا قولتله, أنا مش عايزة
حد يقولي أنا صح ولا غلط, أنا أصلاً مكنتش عايزة أتكلم مع حد, بس أنا ارتحت لك
فحكيت, حكيت عشان أتسمع وأسمع نفسي وأنا بعيد قصة حياتي ولكن بصوت عالي, أنا حكيت
عشان أعرف أنا إيه اللي جوايا بالظبط, أنا حكيت عشان لاقيت اللي يسمعني ويحس بيا
ويهتم إنه يعرف مالي, ومعرفش أنا حكيتلك إزاي أصلاً؟!
بعد سماعي لحديثها, شعور داخلي كان يدفعني إلى أحتضانها, فهي ليست بحاجة
إلى النصح والإرشاد كمان قالت, ولكنها بحاجة إلى الحضن الدافئ الصادق النابع
حقيقاً من القلب.
جففت دموعها واستعدت للرحيل, حينها أوقفتها وضمتها إلى صدري, فبدأت في
البكاء مرة ثانية..ولكن في هذه المرة كان نحيباً
***
روعة بجد ...معبرة وحسيت بكل كلمة كتبتيها استمري
ReplyDeleteأشكرك :)
Delete❤️
ReplyDeleteصورة حبيبة قلبي <3
Deleteواقعية
ReplyDeleteأتمنى تكون عاجبتك :)
Delete